فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء}
معنى الآية التشبيه والتمثيل، أي صفة الحياة الدنيا في فنائها وزوالها وقلة خطرها والملاذ بها كماء؛ أي مثل ماء، فالكاف في موضع رفع.
وسيأتي لهذا التشبيه مزيد بيان في الكهف إن شاء الله تعالى.
{أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} نعت لماء.
{فاختلط} روي عن نافع أنه وقف على {فاختلط} أي فاختلط الماء بالأرض، ثم ابتدأ {بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} أي بالماء نبات الأرض؛ فأخرجت ألوانًا من النبات، فنبات على هذا ابتداء، وعلى مذهب من لم يقف على {فَاخْتَلَطَ} مرفوع باختلط؛ أي اختلط النبات بالمطر، أي شرب منه فتندّى وحَسُن واخضر.
والاختلاط تداخل الشيء بعضه في بعض.
قوله تعالى: {مِمَّا يَأْكُلُ الناس} من الحبوب والثمار والبقول.
{والأنعام} من الكلإ والتبن والشعير.
{حتى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} أي حسنها وزينتها.
والزخرف كمال حسن الشيء؛ ومنه قيل للذهب: زخرف.
{وازينت} أي بالحبوب والثمار والأزهار؛ والأصل تزينت أدغمت التاء في الزاي وجيء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين الأوّل منهما ساكن والساكن لا يمكن الابتداء به.
وقرأ ابن مسعود وأُبيّ بن كعب {وتزينت} على الأصل.
وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية {وأَزْيَنَت} أي أتت بالزينة عليها، أي الغَلّة والزرع؛ وجاء بالفعل على أصله ولو أعلّه لقال وازانت.
وقال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: قرأ أشياخنا {وازيانت} وزنه اسوادت.
وفي رواية المُقَدّمي {وازاينت} والأصل فيه تزاينت، وزنه تقاعست ثم أدغم.
وقرأ الشعبيّ وقتادة {وأزْينت} مثل أفعلت.
وقرأ أبو عثمان النَّهدِيّ {وازينت} مثل افعلت، وعنه أيضًا {وازيانت} مثل افعالت، وروي عنه {ازيأنت} بالهمزة؛ ثلاث قراءات.
قوله تعالى: {وَظَنَّ أَهْلُهَا} أي أيقن.
{أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} أي على حصادها والانتفاع بها؛ أخبر عن الأرض والمعنِيّ النبات إذا كان مفهومًا وهو منها.
وقيل: ردّ إلى الغلة، وقيل: إلى الزينة.
{أَتَاهَا أَمْرُنَا} أي عذابنا، أو أمرنا بهلاكها.
{لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} ظرفان.
{فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا} مفعولان، أي محصودة مقطوعة لا شيء فيها.
وقال: {حَصيدًا} ولم يؤنّث لأنه فعيل بمعنى مفعول.
قال أبو عبيد: الحصيد المستأصَل.
{كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} أي لم تكن عامرة؛ من غَنِي إذا أقام فيهِ وعمرَه.
والمغاني في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس.
وقال قتادة: كأن لم تنعم.
قال لبِيد:
وغَنِيتُ سَبْتًا قبل مَجْرَى داحسٍ ** لو كان للنفس اللَّجُوج خلودُ

وقراءة العامة {تَغْنَ} بالتاء لتأنيث الأرض.
وقرأ قتادة {يغن} بالياء، يذهب به إلى الزخرف؛ يعني فكما يهلك هذا الزرع هكذا كذلك الدنيا.
{نُفَصِّلُ الآيات} أي نبيّنُها.
{لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في آيات الله. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {إنما مثل الحياة الدنيا} يعني في فنائها وزوالها {كماء أنزلناه من السماء} يعني المطر {فاختلط به} أي بالمطر {نبات الأرض} قال ابن عباس: نبت بالماء من كل لون {مما يأكل الناس} يعني من الحبوب والثمار {والأنعام} يعني ومما يأكل الأنعام من الحشيش ونحوه {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها} يعني حسنها ونضارتها وبهجتها وأظهرت ألوان زهرها من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من الزهور {وازينت} أي وتزينت {وظن أهلها} يعني أهل تلك الأرض {أنهم قادرون عليها} يعني على جذاذها وقطافها وحصادها، رد الكناية إلى الأرض والمراد النبات إذ كان مفهومًا.
وقيل: رده إلى الثمرة والغلة وقيل: إلى الزينة {أتاها أمرنا} أي قضاؤنا بهلاكها {ليلًا أو نهارًا} يعني في الليل أو النهار {فجعلناها حصيدًا} يعني محصودة مقطوعة {كأن لم تغن بالأمس} يعني: كأن لم تكن تلك الأشجار والنبات الزروع نابتة قائمة على ظهر الأرض وأصله من غنى فلان بالمكان إذا أقام به وهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمتشبثين بالدنيا الراغبين في زهرتها وحسنها.
وذلك أنه تعالى لما قال: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا، أتبعه بهذا المثل لمن بغى في الأرض وتجبر فيها وركن إلى الدنيا وأعرض عن الآخرة لأن النبات في أول بروزه من الأرض ومبدأ خروجه يكون ضعيفًا فإذا نزل عليه المطر واختلط به قوي وحسن واكتسى كمال الرونق والزينة وهو المراد من قوله حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت يعني بالنبات والزخرف عبارة عن كمال حسن الشيء وجعلت الأرض آخذة زخرفها على التشبيه بالعروس إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون حسن من حمرة وخضرة وصفرة وبياض ولا شك أن الأرض متى كانت على هذه الصفة فإنه يفرح بها صاحبها ويعظم رجاؤه في الانتفاع بها وبما فيها ثم إن الله سبحانه وتعالى أرسل على هذه الأرض صاعقة أو بردًا أو ريحًا فجعلها حصيدًا كأن لم تكن من قبل.
قال قتادة: إن المتشبث بالدنيا يأتيه أمر الله وعذابه أغفل ما يكون.
ووجه التمثيل، أن غاية هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذاتها.
وقيل: يحتمل أن يكون ضرب هذا المثل لمن ينكر المعاد والبعث بعد الموت وذلك، لأن الزرع إذا انتهى وتكامل في الحسن إلى الغاية القصوى أتته آفة فتلف بالكلية.
ثم إن الله سبحانه وتعالى قادر على إعادته كما كان أول مرة فضرب الله سبحانه وتعالى هذا المثل ليدل على أن من قدر على إعادة ذلك النبات بعد التلف كان قادرًا على إعادة الأموات أحياء في الآخرة ليجازيهم على أعمالهم فيثيب الطائع ويعاقب العاصي.
{كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون} يعني: كما بينا لكم مثل الحياة الدنيا وعرفنا كم حكمها، كذلك نبين حججنا وأدلتنا لمن تفكر واعتبر ليكون ذلك سببًا موجبًا لزوال الشك والشبهة من القلوب. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ}
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} ضرب مثلًا عجيبًا غريبًا للحياة الدنيا تذكر من يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها، وأنها بحال ما تعز وتسر، تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء.
وقال الزمخشري: هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطامًا بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه انتهى.
وإنما هنا ليست للحصر لا وضعًا ولا استعمالًا، لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالًا غير هذا، والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول.
والظاهر تشبيه صفة الحياة الدنيا بماء فيما يكون به، ويترتب عليه من الانتفاع ثم الانقطاع.
وقيل: شبهت الحياة الدنيا بالنبات على تلك الأوصاف، فيكون التقدير: كنبات ماء، فحذف المضاف.
وقيل: شبهت الحياة بحياة مقدرة على هذه الأوصاف، فيكون التقدير: كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء.
قيل: ويقوي هذا قوله: {وظن أهلها أنهم قادرون عليها}.
والسماء إما أن يراد من السحاب، وإما أن يراد من جهة السماء، والظاهر أن النبات اختلط بالماء.
ومعنى الاختلاط: تشبثه به، وتلقفه إياه، وقبوله له، لأنه يجري له مجرى الغذاء، فتكون الباء للمصاحبة.
وكل مختلطين يصح في كل منهما أن يقال: اختلط بصاحبه، فلذلك فسره بعضهم بقوله: خالطه الماء وداخله، فغذّى كل جزء منه.
وقال الكرماني: فاختلط به اختلاط مجاورة، لأنّ الاختلاط تداخل الأشياء بعضها في بعض انتهى.
ولا يمتنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل، فلا تقول: إنه اختلاط مجاورة.
وقيل: اختلط اختلف وتنوع بالماء، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير.
وقيل: معنى اختلط تركب.
وقيل: امتد وطال.
وقال الزمخشري: فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضًا.
وقال ابن عطية: وصلت فرقة النبات بقوله فاختلظ أي: اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء انتهى.
وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله: {فاختلط}، هو ضمير يعود على الماء أي: فاختلط الماء بالأرض.
ويقف هذا الذاهب على قوله: {فاختلط}، ويستأنلف به نبات على الابتداء، والخبر المقدم.
قال ابن عطية: يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل انتهى.
والوقف على قوله: {فاختلط}، لا يجوز وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى، الفصيح اللفظ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد، والمعنى الضعيف.
ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض، أو بالماء نبات الأرض، لم يكد ينعقد كلامًا من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة، ولولا أنّ ابن عطية ذكره وخرّجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا.
ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره، بيّن أنّ المراد أحد القسمين بمن فقال: مما يأكل الناس، كالحبوب والثمار والبقول والأنعام، كالحشيش وسائر ما يرعى.
قال الحوفي: مِن متعلقه باختلط.
وقال أبو البقاء: مما يأكل حال من النبات، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفًا لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفًا.
وقول أبي البقاء: هو الظاهر، وتقديره: كائنًا مما يأكل، وحتى غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولًا حتى تصحّ الغاية.
فأما أن يقدر قبلها محذوف أي: فما زال ينمو حتى إذا، أو يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.
وقوله: {أخذت الأرض زخرفها وازينت}، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتست وتزينت بأنواع الحلى، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس.
وازينت أي: بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار، ويحتمل أن يكون قوله: {وازينت} تأكيدًا لقوله: {أخذت الأرض زخرفها}.
واحتمل أن لا يكون تأكيدًا، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين، فقيل: {وازينت} ليفيد أنها قصدت التزيين.
ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة.
وقرأ الجمهور: وازينت وأصله وتزينت، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام.
وقرأ أبي وعبد الله، وزيد بن علي، والأعمش: وتزينت على وزن تفعلت.
وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، والحسن، والشعبي، وأبو العالية، وقتادة، ونصر بن عاصم، وابن هرمز، وعيسى الثقفي: وأزينت على وزن أفعلت، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت.